الثلاثاء، 14 يناير 2020

متى الوقت المناسب للموت؟


وجدت نفسي منذ سنوات كثيرة أكرر هذا السؤال بين الحين والآخر، عند كل حالة مرض أو وفاة أو معاناة، مع كل حدث مأساوي جديد يتصدر مآسي أمتنا، مع كل صورة أو خبر لحالات تعيش من المعاناة ما لايعلمه إلا الله. هل الموت في عمر الستين مناسب للإنسان أكثر من الموت في الثلاثين والأربعين؟ 
أرى أن هذا السؤال مهم جدا ويجب أن يكون أمام كل إنسان. لماذا؟ كلامي هو عن هذا الموضوع. التفكير في الموت يعني أولا التفكير في الحياة وسببها. ويمكن رؤية الحياة بمنظورين مختلفين.

المنظور الأول هو أننا خُلِقنا لنعيش حياة كريمة هانئة نتعلم فيها ونكبر ونعمل ونتزوج وننجب ونربي ونرى أحفادنا ثم ننتقل إلى جوار ربنا. التفكير بهذا المنظور يعني أن أي اختلاف وتفاوت عن هذه المراحل يعني مشكلة ومأساة عظيمة يجب حلها للعودة إلى المسار الصحيح، وإن لم يكن هذا ممكنا فيعني أن الإنسان لم ينل نصيبه من الحياة وبأنه قد ظُلِم في حياته ولم ينل فرصة عادلة كغيره من البشر. فمن يموت شابا لم ينل العدل ومن عاش في فقر شديد أو بيئة فاسدة ومن عاش في حالة حرب ومن أصابه مرض شديد كلهم قد ظُلِموا في هذه الحياة. مع هذا التفكير تأتي تساؤلات كثيرة مثل لماذا يحدث هذا؟ ماذنب صاحب المصيبة؟ لمَ هذا الظُلم؟ أين عدل الله؟  المفكر بهذه الطريقة يعيش لتحسين تجربة الحياة مهما كان المقابل فالهدف هو الراحة والرفاهية في دورة الحياة، لامانع من الغش والخداع والظلم والسرقة إذا أتيحت الفرصة. فإن حالفه الحظ وعاش في راحة مالية وصحية و اجتماعية فالحمدلله، وإن صادفته مصيبة أو صعوبة في مجال ما عظّم هذا الإنسان الموضوع وهوّله وعاش ميّتا يائسا حزينا لاطعم لحياته ولا شعور.

المنظور الثاني هو أننا في هذه الدنيا نقدم اختبارا كثير النماذج لايتشابه فيه نموذجان فلايمكن مقارنة حياة بأخرى ولايمكن الحكم على تجربة بالنجاح أو الفشل. التفكير بهذا المنظور يعني عدم إفراط الاكتراث في أي أمر كان خلال هذا الامتحان، إن واجهنا فرحا فرحنا بهذا "السؤال" الجميل ولكن لانغتر ونتساهل أو ننسى الإجابة عليه وأقصد شكر الله وتذكر فضله وإن واجهنا حزنا وكدرا حزنّا وانصدمنا بهذا "السؤال" الصعب، ولكن لانيأس ونتوقف عن حل باقي الامتحان ولاندع هذا السؤال الصعب يكون سببا لفشلنا في الاختبار كله. نسعى قدر المستطاع للنجاح ونترك النتيجة والتقييم للحكم العدل الخبير. 

بالتأكيد لايختلف عاقلان على أن المنظور الثاني هو الصحيح، ولكن هذا أمر نظري بحت. في الواقع قد تتأرجح مواقفنا بين هذين المنظورين، والحل هو تعويد النفس وتذكيرها باستمرار بهذا السؤال. 
عودة إلى السؤال الأول (الوقت المناسب للموت)، عند التفكير بامتحان الحياة تفكيرا صحيحا ستكون الإجابة مبنية على معايير صحيحة، وسنتذكر الأمور المهمة ونميزها من توافه الحياة.
عندما أسأل نفسي هل الوقت مناسب الآن لأن أموت؟ سأفكر، هل علاقتي بالله صحيحة؟ أين تقصيري؟ إن كان حالي صحيحا فالجواب الصحيح هو "نعم، أنا مستعد ومرتاح للموت الآن، أنا واثق من إجاباتي في امتحان الحياة" وإن كان الجواب غير ذلك فستتوضح عندي مواطن تقصيري وضعفي، وتتوضح أولوياتي وأعمل لها ولا أدع الأمور الإضافية الفرعية تأخذ كثيرا من تفكيري ووقتي.
التعود على هذا السؤال وهذا التفكير سيساعد كثيرا لنصل إلى حالة المؤمن المثلى التي ذكرها الرسول ﷺ حين قال: ((عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ)). هي حالة سهلة نظريا ولكن الأمر صعب أيما صعوبة تطبيق هذه القاعدة عمليا. علينا أن نقتنع بإنه لايمكن تحقيق شيء دون التفكير به أولا ثم مجاهدة النفس للوصول إليه. 

التفكير بالموت ليس مدعاة لترك العمل في الدنيا والاجتهاد فيها بل على العكس تماما، التفكير فيه مع فهم صحيح لسبب وجودنا في هذه الحياة يدفعنا للاجتهاد الشديد في حياتنا وتأدية أماناتنا ومسؤلياتنا تجاه آبائنا وأزواجنا وأبنائنا وأصحابنا وأعمالنا وأوطاننا وأمتنا وكل مجالات الحياة. فالعمل وتحمل المسؤولية هي من صميم العبادة التي خُلقنا لأجلها. ولكن التفكير في الموت سيحمينا من استخدام الأساليب الخاطئة للوصول إلى المصالح الدنيوية، سيحمينا من اليأس والقنوط وقت المصائب، سيحمينا من الغفلة وقت النعم.

على الهامش: قد تكون من أسعد وأنقى لحظات حياتي هي عندما فكرت في هذا السؤال يوما ما وأنا أمشي عائدا من المسجد وكانت الإجابة بكل راحة "نعم، أتمنى أن أموت في يوم كهذا، صليت كل الصلوات جماعة في المسجد مع سننها، قلت الأذكار، والداي راضيان عني" ثم دعوت الله عز وجل بهذا الأمر. كان شعورا غريبا وعجيبا جدا أسأل الله أن يصلح أعمالنا مابقينا وأن يتقبلها وأن يتوفانا وهو راض عنا